ينهمك مهندسو المواد معظم الوقت بإيجاد المادة المثالية التي قد تتفوق على غيرها في صناعة كلٍ من المكونات المختلفة. فزجاج السيارة، على سبيل المثال، يتم انتاجه من الياقوت الصناعي بسبب قوة تحمله. في حين تتم صناعة الإستيك المطاطي من المطاط بسبب مرونته. لكل مادة خصائصها المحددة، أو إذا شئتم – تخصُصاتٍ تجعلها مثاليةٌ للقيام بوظائف معينة. و لأن الجسم البشري يتكون هو الآخر من مواد، إذاً ينطبق علينا نفس المبدأ: المواد الغذائية المختلفة لها فوائد للقيام بوظائف الجسم المتنوعة. فالعظام يجب أن تكون قوية و لذلك هي تحتوي على الكالسيوم، في حين أن الجلد الذي يجب أن يكون مرناً يتكون من الكولاجين. لكن على عكس الأجسام الغير حية، فإن أجسامنا ديناميكية و متجددة باستمرار، و لذلك لدينا سيطرة كبيرة على تركيبة هذه المواد و طبيعتها. بالنسبة لإدارة هندسة المواد في الجسم، فنحن نستخدم مصطلح “التغذية”.

تحدد نوعية المواد التي ندخلها لأجسامنا جودة البناء العام للجسم و قدرته على القيام بالوظائف المختلفة. بالطبع، فإن من المهم الحفاظ على القلب و الأوعية الدموية، و الكبِد، و الجهاز الهضمي، وبقية أجزاء الجسم. و لكن الأهم من ذلك هو مركز التحكم الذي يقوم بتشغيل جميع هذه الأعضاء. حيث يعتبر الدماغ هو العضو الأكثر تعقيداً من حيث الوظائف التي يقوم بها – فهو مسؤول عن تنظيم و تزامن جميع أعضاء الجسم، وليس هذا فحسب، فالدماغ يقوم بوظائفه المستقلة، بما في ذلك الذاكرة، و قدرات التفكير، و الحالة العاطفية.

تتناسب درجة تعقيد وظائف الدماغ مع درجة تعقيد المواد التي يتكون منها هذا العضو. في حين تتكون أعضاء الجسم الأخرى من مجموعة متنوعة من المواد التي تفي بوظائف مختلفة تتعلق بالأدوار التي تقوم بها، لكن يعتبر الدور الذي يقوم به الدماغ هو الأكثر تعقيداً من بينها. تكمن أهمية الجمع بين مجالات المسؤولية الميكانيكية و المعرفية في أن الطعام الذي نختاره لتغذية أدمغتنا لا يحدد الكيفية التي يعمل بها الجسم فحسب، بل أيضاً يؤثر على الحالة العاطفية، و القدرة على التفكير، و التذكر. و بعبارة أخرى، فإن الوعي بطبيعة تأثير التغذية على أدمغتنا يمكنه أن يؤثر على جودة الحياة التي نعيشها بشكل عام.

من ماذا تتركب أدمغتنا؟

يخبرنا فيديو الرسوم المتحركة الخاص ب TEDED أنه إذا تم سحب الرطوبة الموجودة في الدماغ و تحليل مكوناتها الغذائية، فإننا سوف نحصل على الدهون، إلى جانب كمية كبيرة من البروتينات و الأحماض الأمينية، والقليل من المغذيات مثل الحديد و الزنك و أخيراً الجلوكوز. “بالطبع، على الرغم من أن الدماغ هو أكثر بكثير من مجرد مجموع مكوناته المغذية”، يؤكد المتحدث في الفيديو قائلاً، ” لكن لكل مكونٍ تأثيرُه الواضح على وظيفة الدماغ، و النمو، و الحالة النفسية والطاقة”. حتى إذا لم نكن مدركين دائماً للعلاقة بينهما، فإن الكثير من مشاعرنا هي نتيجةٌ لعاداتنا الغذائية، سواء كان ذلك بشكل مباشر – مثل تأثير السكر على مستوى التركيز، أو كان ذلك بشكل تراكمي – مثل تأثير الكحول على الذاكرة.

دعونا نبدأ بنصيب الأسد، الدهون. بالتأكيد واجهتكم مصطلحات مثل أوميجا 3 و أوميغا 6. تعتبر هذه الأحماض الدهنية “نجوم الدماغ”، حيث وجدت الدراسات أن لها تأثيرٌ إيجابي على الأمراض التَنَكُسِية (بالانجليزية: degenerative diseases) التي تصيب الدماغ.لكن المشكلة هي أن الجسم لا يقوم بإنتاجها و يجب الحصول عليها من مصدرٍ خارجي. فالبذور و المكسرات و الأسماك الدهنية، على سبيل المثال، تحتوي على تركيزات عالية من هذه الأحماض و بالتالي فهي “ضرورية في تكوين و صيانة أغشية الخلايا”. إن الحفاظ على نظامٍ غذائيٍ غنيٍ بالأحماض الدهنية أوميجا 3 و أوميجا 6 أمرُ مهم للحفاظ على الصحة العامة للمادة الرئيسية للدماغ.

تعتبر البروتينات و الأحماض الأمينية هي “اللبنات الأساسية للنمو و التطور”. تعمل هذه المكونات الأساسية على تنظيم عواطفنا و سلوكنا: تقوم الأحماض الأمينية بحمل و نقل المواد التي تتكوّن منها الموصلات العصبية، وهي الجزيئات الكيميائية المسؤولة عن الاتصال بين الأجزاء المختلفة للدماغ. من بين الأمور الأخرى التي تتأثر بالموصلات العصبية هي الحالة النفسية (المزاج)، وكذلك النوم و الانتباه، إضافة إلى أوزاننا. ” (المُوَصلات) هي أحد الأسباب التي قد تجعلنا نشعر بالراحة بعد تناولنا لطبق كبير من المعكرونة، أو تجعلنا نشعر باليقظة و الانتباه بعد تناولنا لوجبة غنية بالبروتين”. مكونات النظام الغذائي تحفز الدماغ لإطلاق بعض المواد الكيميائية مثل النورادرينالين و الدوبامين و السيروتونين، و هي جميعها نواقل عصبية تعمل على تحسين المزاج.

لكن الأمر ليس بسيطاً كما يبدو. فلا يكفي الحصول على طبقٍ غنيٍ بالأحماض الأمينية و البروتين و التمسك به. لكي يصل إلى خلايا الدماغ، “يحتاج الحمض الأميني للمنافسة على مكانٍ محدود”. و من هنا تنبع، كما يؤكد المتحدث، أهمية اتباع نظام غذائي متنوع كما يلي: “تساعد القائمة التي تحتوي على تشكيلة مختارة من الأطعمة على الحفاظ على مجوعة متوازنة من الموصلات في الدماغ”. هذا سوف يسمح لكم بالاحتفاظ بمزاجٍ مستقرٍ و متَّزِن، لا يميل بشكل مفرطٍ إلى حالةٍ مزاجيةٍ معينة.

في حين أن استهلاك الأحماض الأمينية يمكن أن يكون له تأثيرٌ فوريٌ، فإن الجزء الثالث من حجمه – العناصر المغذية (المُغذّيات الدقيقة) لها تأثير طويلُ الأجل. تساعد مضادات الأكسدة الموجودة في الفواكه و الخضروات على الحفاظ على صحة الدماغ على المدى الطويل و درء الأمراض. الفيتامينات من نوع B تحافظ على الدماغ من التدهور العقلي. يحتوي الدماغ أيضاً على كميات ضئيلة من الحديد و النحاس و الزنك و الصوديوم التي تساهم في التطور المعرفي المبكر. و مع تقدم العمر، فإن خلايا الدماغ تتعرض للشيخوخة هي الأخرى. حيث يساعد تناول كميات متنوعة من هذه العناصر الغذائية على تقدم خلايا الدماغ في العمر بشكلٍ آمنٍ و بمعدلٍ بطيء.

باستطاعتنا أن نُناوِر بوظائف الدماغ عن طريق غذائنا

الذاكرة، التعلم، الحالة النفسية، و الإدارة العامة لأنشطة الجسم – يتطلب هذا النشاط العقلي الهائل الكثير من الوقود لكي يستمر. فقد يستهلك الدماغ ما تصل نسبته إلى 20% من الطاقة الإجمالية للجسم. أحد الأسباب التي تجعل الطلاب يشعرون بالتعب عند قضائهم لوقت طويل على مقاعد الدراسة هو زيادة نشاط الدماغ و قيامه باستقبال المعلومات الجديدة. أيضاً العمَّال الذين يبدأون القيام بمهمات جديدة هم عرضة للشعور بالتعب بسبب زيادة نشاط الدماغ. الطاقة التي نحصل عليها من السكر، و التي يأتي معظمها على شكل كربوهيدرات يقوم الجسم بتفكيكها إلى جلوكوز. يتواجد السكر على هذه الحالة (جلوكوز) في الدم و جاهز للاستخدام مباشرةً من قِبل جميع أجزاء الجسم بما فيها الدماغ. واحدةٌ من أكثر المناطق تأثراً من مستويات السكر هو الفص الجبهي (بالانجليزية: Frontal lobe) المسؤول عن الوظائف المعرفية المعقدة مثل اللغة، و الانتباه، و الذاكرة، و التخطيط، و الحافزية، و الوظائف الإدارية، و المهارات الإجتماعية. فغالباً ما يشير الانخفاض في قدرة الدماغ على القيام بهذه الوظائف إلى عاداتٍ غذائيةٍ غير متوازنة.

تقوم أجسادنا باستهلاك الطاقة في ثلاثة أشكال رئيسية: النشا، و السكر، و الألياف. لكل شكل منها تأثير مختلف على توافر الطاقة و الاستفادة منها. تحتوي معظم الأطعمة على جميع أشكال الطاقة في نفس الوقت، لكن بنسب متفاوتة. فمنتجات الدقيق الأبيض، على سبيل المثال، غنية بالسكر، و هو أكثر الأشكال توافراً للطاقة. و استهلاكها يسبب زيادة سريعة في الوظائف المعرفية. وبسبب السرعة التي يلتهم بها الدماغ السكر، ففي نهاية الارتفاع يأتي انخفاض حاد. لذلك، عندما نحتاج إلى الحفاظ على التركيز لوقتٍ طويل، فإن اختيار شكلٌ آخرٌ من أشكالِ الطاقة سيكون أكثر فائدة. يحتوي الشوفان، و البقول، و الحبوب على طاقة يتم اطلاقها إلى مجرى الدم بصورة منتظمة و مضبوطة على مدى فترة من الزمن لكي تحافظ على مستوى ثابت و مستقر في وظائف الدماغ.

لا تعتبر هندسة مواد الدماغ وصفة مضمونة للنجاح. أهم قاعدة ينبغي تطبيقها هي استهلاك مجموعة من الأطعمة المتنوعة الغنية بالعناصر المغذية للدماغ. قد يكون الحفاظ على قائمة غذائية ثابتة و دائمة مفيداً جداً لقيام الجسم بوظيفة معينة، و لكن هذا يؤدي إلى إهمال الأجزاء الأخرى. كما ذكرنا سابقاً، الدماغ أكبر من مجموع أجزائه. في كل مرةٍ نفتح فيها أفواهنا و نقرر نوعية الطعام التي سوف ندخلها إلى معالج الطعام الداخلي في أجسامنا، فإننا بذلك نحدد بالفعل الطريقة التي سيتصرف و يستجيب بها دماغنا: كيف ستبدو الدقائق، و الساعات و الأيام و السنين القادمة. فنحن من يقوم بتصميم حياتنا في الحاضر و المستقبل.